التصنيفات
اخبار سُليم

مقال الاسبوع ( حينما أصافح قريتي )

IMG_1563

‏حينما أصافح قريتي!!!

بقلم البرفيسور/ عبد الله عويقل الحجيري السلمي
‏بيني وبين ( المضحاة) عشقٌ أبدي … أتغنى متمايلا طربا مع سعف نخيلها، وألثم بطحائها الفضيّة في ملتقى واديي ( ساية) و( شوان) وأتنفس متنهدا حينما تهبّ نسمات ( الحرازية والسّدرة وأم الغزلان والهيّورة وحليفات ) لأنها كانت تموج بالحياة في زمن الراحلين … أحاول دائما أن أتأمل الناس وموقعهم وموقفهم من قراهم فألفيتهم صنفين: صنف يؤثر البقاء في المدينة، وهذا لا أحسبه يتذوق طعم الحياة ولا يحن لعبق التأريخ وربما لا تراوده لذة الفرح مهما تعاقب الجديدان؛لأن الحياة في المدينة تمر أيامها كسائر الأيام حالكة اللون تافة الطعم بادية الكآبة بلا تغيير في البرنامج اليومي سوى عوادم سيارات وذهابا وجيئة في برنامج يومي لعملٍ أو تبضّع… فالإنسان الذي لم يغادر المدينة لا أحسبه يفطن لدوران الفلك ولا يتذوق طعم الحياة … ينام ساعات ويجتر مثلها،دون الشعور بتبدل الأحوال، أو بالسعادة التي عادة تغشى النفس لحظات الصباح القروي حينما ينبعث دخان المواقد المنزلية، ويتصاعد ثغاء الشياة، ويشنف الأسماع صوت الحادي وهو يحمل ( مسحاة أو منجلا أو فأسا ) على كتفه. من هنا يظهر الصنف الآخر – وأحسبني في طليعته بأمنيات فقط- ينوي المغادرة هروبا من صخب المدينة، وضوضاء الشوارع، وزحامها، وتغيير رتم الحياة اليومي، لأنه من مجتمع صحراوي قروي، وغرباء مدنٍ، بل لم تكن مفردة (مدينة) في قاموس آبائنا، والقرآن يشهد بذلك، من هنا فالخيار الأنسب ليروم الراحة والهدوء وربما الوقوف على بقايا قريته أن يتجه ولو مرة بالشهر إلى القرية يحث خطاه باحثا عن مراتع صباه، ومسقط رأسه وذكريات طفولته ومواطن تجمّع أقاربه – حينما كان الأقارب يجتمعون- … وكم حاولت أن أكون ممن يفعل ما يقول، فغادرت إلى قريتي ( المضحاة) وتوقعتها- بعد طول انقطاع كبسمة فرح على ثغر الوجود تزدان لياليها فيعود للشيوخ شبابهم وهم يبصرون أبناءهم الذين اختطفتهم المدنية قد ارتموا في أحضانهم والتفوا حولهم وسكنوا معهم مهما كان حجم المنزل ونوعه- لكنني فزعت وحزنت حينما أبصرتها تعيش حدادا وتتوشح بالألم بعد رحيل ذلك الرعيل… تذكرت المؤذن الوقور صاحب الوجه المضيء ( خلف لويفي) حينما يصدح فيوقظ النائمين، تذكرت ( صالح غالي) وهو بنظارته المعتمة يفترش سريره أمام دكّانه الصغير… رأت بقايا النخيل من ( المنزّة شرقا إلى الحرازيّة غربا) قد انحنت حزنا ووجدا على من رحلوا أو أبعدهم الزمن … ظننت أنني سأجد قريتي تتشح برداء العروس ليلة زفافه والطيور تغني نشوى وترقص ثملة على أعذاق الدخن والذرة، ظننت قريتي تموج بالحياة وتغشاها المودة والتواصل،لكنني وجدتها قد تغيرت بمن فيها وما فيها،وتحولت من دور حجريّة وبيوتٍٍ شعر وخيام وصنادق زنكيّة إلى مبانٍ اسمنتيّة هامدة تفصل بين أحيائها شعاب وجبال وهضاب لا شجر فيها ولا نبت وتتناثر بعض الأحواش الخالية كأسوار المقابر … لا تنبض بالحياة رأيت منازل عارية خالية تكتسي بالوحشة ، فزعت للدّور التي شيّدت من الحجر وجذوع النخل على أكناف المزارع ألتمس فيها السلوة ويخيل إليّ أنني سأسمع فيها صدى صهيل( مرزوق) ورجاحة( ابن حباب ) وشعر( ابن غالي) ورزانة ( دهيكل) وحيويّة ( فزاع) وتسبيح ( عويقل)ومزاح ( ابن حزام) وحزم وجديّة ( ذوي عابد وعبيد)ولكن يرجع إليّ سمعي وبصري خاسئا وهو حسير كسير… فزعت لخيف ( الجفانية) أتلمس صوت ( هجّاد ولاحق وعطية …وعتيق ومحمد)لكنني وجدت بضع نخلات سقط سعفها وبقى جذعها تحاول أن تقاوم رياح الأسى لتبقى صامدة تذكرنا تاريخ من غرسها وتلومنا كجناة!!!. إن إعادة الحياة للقرية برٌ بجهود السابقين ومحاولة لمواساة ومجالسة ومؤانسة بقايا ذالك الجيل من القابعين في أكناف الجبال وبطون القلاع يرفضون الاستسلام للوثة المدنية، علاقتي بقريتي بعد زيارتي لها غيرت موقفي نحوها، فألفيتني – مرغما أبحث عن أرياف وقرى أخرى في ربوع بلاد العم ( سام ) لكنني أقول للجيل القادم إن احتضان القرية هو ربط للحاضر بالماضي، فيها بهجة للروح ومتعة للعين وراحة للنفوس …فيها فرح ونشوة وحركة وتواصل وجو نظيف ونسيم عليل وسماء صافية … أتمنى أن تعود الليالي التي كان يجتمع فيها السمار والزوار ويلتئم عقد الأقارب، يتجاذبون أفنانا من الحديث ويمارسون ألوانا من المرح لا يكاد يداعب النعاس أجفانهم ولا تكاد تغادر البسمة أفواههم، يحملون قلوبا طهرها الحب بينهم وساعد على إذابة التخاصم والتباغض الذي خلفه من بعدهم خَلْف همهم اللهاث وراء الحطام الدنيوي….إن القرية هي عقد وثيق بين الإنسان والأرض وألقاكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.